أوضحت وزارة المالية أن ملف زيادة الأجور في تونس لا يخضع لمنطق موحّد بين القطاعين العام والخاص، بل تحكمه اعتبارات مختلفة ترتبط بطبيعة كل قطاع وإمكاناته. ففي القطاع العام، تبقى الزيادات مرهونة بالقدرة المالية للدولة وبالتوازنات الكبرى للميزانية، في ظل ضغوط متزايدة على المالية العمومية. أما في القطاع الخاص، فإن الأجور تخضع بالأساس إلى اتفاقيات قطاعية ومفاوضات جماعية تختلف من نشاط إلى آخر، وهو ما يفسر الفوارق الكبيرة المسجلة بين المؤسسات والقطاعات.
هذا التفاوت أصبح واقعا عمليا، حيث بادرت بعض المؤسسات الخاصة إلى الترفيع في الأجور إما بقرارات داخلية أو عبر تفاوض مباشر مع الهياكل النقابية، في حين لا تزال مؤسسات أخرى عاجزة عن مجاراة نسق الزيادات بسبب ضعف المردودية أو ارتفاع كلفة الإنتاج.
تنقيح الفصل 26: طرح جبائي تدريجي على الجرايات
ضمن الإصلاحات الجبائية المعلنة، يأتي تنقيح الفصل 26 من مجلة الضريبة على الدخل كأحد أبرز الإجراءات التي أثارت نقاشا واسعا، خاصة في صفوف المتقاعدين. وينص هذا التنقيح على اعتماد طرح تدريجي على الجرايات والإيرادات العمرية، ينطلق بنسبة 30% بداية من سنة 2026، ليرتفع تدريجيا إلى 50% في أفق سنة 2029.
ووفق المعطيات الرسمية، فإن هذا الإجراء يستهدف بالأساس أصحاب الجرايات المرتفعة، في حين أن الغالبية الساحقة من المتقاعدين، وخاصة ذوي الجرايات الضعيفة والمتوسطة، لن تشملهم هذه التعديلات. وتؤكد وزارة المالية أن الهدف من هذا التنقيح هو تحقيق قدر أكبر من التوازن بين متطلبات دعم موارد الدولة والحفاظ على البعد الاجتماعي للإصلاحات.
من سيتأثر فعليا بالإجراء الجديد؟
تشير التقديرات إلى أن التدابير الجبائية الجديدة لن تشمل سوى حوالي 25% من مجموع المتقاعدين، وهم الذين يتمتعون بجرايات تعتبر مرتفعة مقارنة بالمعدل العام. أما بقية المتقاعدين، والذين يمثلون الأغلبية، فلن يطرأ تغيير فعلي على وضعهم الجبائي.
وفي هذا السياق، شدد الخبير المالي السماوي على أن هذا التوجه يندرج ضمن مقاربة تهدف إلى تخفيف العبء عن ميزانية الدولة دون المساس بمبدأ العدالة الاجتماعية، معتبرا أن تحميل الفئات ذات الدخل الأعلى جزءا من كلفة الإصلاح يبقى خيارا منطقيا في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.
العدالة الجبائية بين المبدأ والتطبيق
رغم التطمينات الرسمية، يظل مفهوم العدالة الجبائية محل نقاش، خاصة لدى شريحة من المتقاعدين الذين يرون أن أي اقتطاع إضافي، مهما كان موجها، قد ينعكس سلبا على قدرتهم الشرائية. في المقابل، ترى الحكومة أن توجيه الإصلاحات نحو الفئات الأكثر استفادة يحقق نوعا من التوازن، خصوصا في ظل محدودية الموارد وتزايد النفقات الاجتماعية.
ويؤكد مختصون أن نجاح هذه السياسة مرتبط بمدى وضوحها وشفافيتها، إضافة إلى قدرتها على إقناع الرأي العام بأن الأعباء موزعة بشكل عادل ولا تمس الفئات الهشة.
المساهمات الاجتماعية التضامنية ودورها في دعم المنظومة
إلى جانب الإصلاحات الجبائية، تواصل المساهمات الاجتماعية التضامنية لعب دور محوري في دعم الموارد المخصصة للقطاع الاجتماعي، وخاصة صناديق التقاعد. وقد تم اعتماد هذه الآلية في السنوات الأخيرة كحل ظرفي لتعزيز المداخيل، في انتظار إصلاحات هيكلية أعمق.
ورغم أهميتها، تبقى هذه المساهمات غير كافية بمفردها لضمان استدامة المنظومة، ما يفرض التفكير في حلول أكثر شمولية تقوم على تنويع مصادر التمويل وتحسين الحوكمة المالية.
تحديات مستقبلية وإصلاحات منتظرة
تواجه الدولة التونسية جملة من التحديات المستقبلية في ما يتعلق بملف الأجور والتقاعد، من أبرزها ضرورة مراجعة القوانين والاتفاقيات المنظمة للعلاقات الشغلية، بما يضمن حماية المتقاعدين وتحقيق توازن دائم بين الحقوق والواجبات.
كما يطرح ملف استدامة الصناديق الاجتماعية نفسه بإلحاح، في ظل تراجع عدد المساهمين مقابل ارتفاع عدد المنتفعين، ما يستوجب البحث عن آليات استثمار ناجعة للموارد المتاحة، وإرساء إصلاحات تدريجية تتماشى مع مشروع الدولة الاجتماعية.
تحليل أو تعليق خاص من فريق تحرير تونس 33
من خلال قراءة شاملة لهذه الإجراءات، يتضح أن الحكومة اختارت مقاربة حذرة تقوم على الإصلاح التدريجي بدل الصدمات المفاجئة. ورغم ما تحمله هذه الخيارات من رسائل طمأنة، إلا أن نجاحها يبقى رهينا بمدى قدرتها على تحسين الثقة بين الدولة والمواطن، خاصة في ظل تآكل القدرة الشرائية وارتفاع كلفة المعيشة.
إن تحقيق العدالة الجبائية والاجتماعية لا يمر فقط عبر الأرقام والنسب، بل يتطلب رؤية متكاملة تضع المواطن في قلب السياسات العمومية، وتربط بين الإصلاح المالي والتنمية الاقتصادية الحقيقية.
المصدر: فريق تحرير موقع تونس 33، المرجع: وزارة المالية التونسية